هناك مفهوم خاطئ لدى البعض عندما يحصر الديمقراطية باختيار الحاكم من خلال انتخابه بواسطة صناديق الاقتراع وإذا ما تخلف هذا الشرط فإن أي نظام حكم يكون فاقداً للديمقراطية .. وكأن أصحاب هذا المفهوم يريدون أن يغضوا الطرف عن أن تداول السلطة في أية دولة بصرف النظر عن نظامها الملكي أو الجمهوري أو إمارة أوما شابه ليس له معنى أو أهمية إذا لم يكن يسعى جاهداً لرفاهية شعبه وحفظ حقوقه وبناء اقتصاد متين.
فبالنظر إلى الاقتصاد الخليجي نجده قوياً مقارنة مع الكثير من الدول ذات النظام الديمقراطي المبني على اختيار الحاكم أو رئيس الحكومة من خلال صناديق الاقتراع. ويشكل نظام الحكم الوراثي الخليجي أحد العوامل في قوة اقتصاد دولها لما توفره من استقرار سياسي، ذلك أنه قائم على التوريث وسنده البيعة من خلال مبايعة العشائر لحاكم واحد من عشيرة معينة ترتبط معها بمصالح مشتركة، وعلى هذا الحاكم أن يتصف بالحكمة والعدل والكرم وغيرها من الصفات القيادية. وهو بمثابة قيام مجموعة من العشائر بانتخاب عشيرة معينة لينينحصر الحكم في افرادها لقيادة مصالحها والعمل على حفظ حقوقها وتطور ذلك ليواكب التطور الإداري الحديث الذي يجب أن تكون عليه الدولة العصرية.
وإذ نتفق مع البعض أن قوة ومتانة الاقتصاد الخليجي يرجع إلى أنها دول نفطية إلا أن اتفاقنا هذا ليس بالمطلق مع ما حققته إمارة دبي التي يتصف نظام الحكم فيها بالحكم الوراثي حيث بنت لنفسها مكانة اقتصادية عالمية من دون الاعتماد على النفط حتى اصبحت بعض الدول العالمية ذات النظام الديمقراطي الانتخابي تحرص على مشاركتها في استثماراتها، كما أن هناك انظمة ذات نظام ديمقراطي انتخابي تعجز عن أن تلحق بركب دبي الاقتصادي التي أكدت تأييدها النهج السياسي المتمثل في وراثة الحكم وفق ما قام به صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي في فبراير/شباط الماضي بتعيين نجله ولياً لعهد دبي. وبهذا التعيين بين سموه للجميع ملامح ربان السفينة المقبل لاقتصاد دبي وما يشكله هذا التعيين من استقرار سياسي لدبي والإمارات. وقد يكون مؤسس اتحاد الإمارات المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان “رحمه الله” ذهب إلى أبعد من ذلك عندما قام بخطوة سباقة حيث استحدث منصب نائب لولي العهد حتى يضمن الاستقرار السياسي لأكثر من جيل. وهذا أيضاً ما يمكن أن يتم لمسه في نظام الحكم السعودي إذ انه مع تعيين ولي عهد للملك فإن الرجل الثالث أيضاً يكون شبه معروف، وقد يكون النظام الكويتي قد أعطى مثالاً متطوراً في عملية الحكم الوراثي والديمقراطي في آن واحد وذلك بعدما تدخل البرلمان الكويتي (مجلس الأُمة) لاختيار الحاكم من بين أفراد العائلة الحاكمة. وساعد نظام الحكم الخليجي بالتوريث على توافر الاستقرار السياسي وهو عامل جذب لأي استثمار حيث فطن الحكام في المنطقة إلى أن الاستثمار بحاجة إلى أدوات أخرى يجب توافرها أهمها توافر البنى التحتية ومواكبة التطور الإداري والتكنولوجي العالمي مما انعكس إيجابياً على أفراد مجتمعهم وإن كان ذلك بتفاوت بين دولة خليجية وأخرى نظراً لما شهدته دول المنطقة من تغيرات سياسية وأيديولوجية وغيرها كما هو الحال لدى الاقتصاد الإماراتي الذي يأتي في طليعة الاقتصاديات الخليجية نتيجة لاتحادها المبني على نظام حكم فريد من نوعه بوجود رئيس للدولة يتم انتخابة ديمقراطياً من بين الحكام السبعة للإمارات تتكون منها الدولة. وجميع هؤلاء الحكام يحكمون إماراتهم وراثياً بعدما بايعتهم القبائل الأخرى. وأدى نظام الحكم هذا إلى وجود تنافس اقتصادي بين هذه الإمارات تطور إلى أن تمكن بعضها من أن يصل إلى المنافسة العالمية. ومن جهة أخرى لا يمكن أن يتم حصر قوة ومتانة الاقتصاد الخليجي للنفط فقط فبعض الدول ذات النظام الانتخابي لا سيما الدول الشرق أوسطية منها، تكاد لا تخلو من بعض المقومات الاقتصادية كالثروات الزراعية، والمعدنية، والأيدي العاملة، والمواقع الإستراتيجية بالإضافة الى الثروة النفطية وغيرها، إلا أن نظام الحكم المبني على ما يسمى صناديق الاقتراع هي التي تقف عائقا دون استثمار تلك الموارد الاقتصادية حيث إن الفئة الحاكمة المباشرة أو من خلال مسميات رؤساء الحكومات في بعض الانظمة مشغولة بخلافاتها مع معارضيها أو الأحزاب وذلك للبقاء أكبر فترة في سدة الحكم للاستئثار بثروات الشعوب. كما أننا لا ننكر أن النظام الديمقراطي بمفهومه الانتخابي هو نظام يحمل أيضاً الكثير من المزايا إذا ما طبق بالشكل الصحيح لإيصال الأصلح والأكفأ إلى رئاسة أية دولة أو رئاسة الحكومة في الدول التي يكون فيها رئيس الوزراء الحاكم الفاعل.. إلا أن هذا النظام أيضاً نظام غير مأمون على الدوام حتى في تلك الدول العريقة ذات النظام الديمقراطي الانتخابي.
فمن خلال الواقع العملي لبعض الدول التي تتداول الحكم بنظام الانتخابات تمر عليها فترة زمنية تحكمها مجموعة من الأشخاص خلال فترة رئاستها تعمل وفق أجندة بعيدة عن مصالح شعوبها التي انتخبتها ولا تراعي إلا مصالح المجموعات التي أوصلتها للحكم سواء تلك المصالح سياسيةً أو اقتصاديةً أو دينيةً أو غيرها من المصالح.
وقد تكون العملية الانتخابية في بعض الأحيان نقمة على شعوبها عندما تتحكم فيها المجموعة الحاكمة ذات أيديولوجيات خاصة وأفكار بعيدة عن متطلبات الشعوب أو أن يتم خلق ظروف استثنائية لهذه الشعوب سواء من خلال الفئة التي وصلت للحكم أو المناوئين لها لا سيما إذا كانت تلك الظروف قد تخدم لوبيات مختلفة في تلك المجتمعات فعلى سبيل المثال الحزب الحاكم الحالي في أمريكا بصرف النظر عن ما يحمل أفرادها من أيديولوجيات أو ظروف مختلفة تعرضت لها فإن في عهدها بدأت بوادر سقوط إمبراطوريتها الاقتصادية ليس سببها المباشر العملية الإرهابية المقيتة التي تعرض لها مركز التجارة العالمي ولكن في طريقة علاج تلك العملية الإرهابية بحيث أشغلت نفسها بحروب استباقية أرهقت الميزانية العامة للدولة ولم تتابع اقتصادها بالأسلوب المطلوب مما عرضها لهزة اقتصادية عالمية أفقدت دولارها هيبته وهزت ثقة العالم بقوة اقتصادها مما انعكس سلباً على اقتصاد كثير من دول العالم. وذكرت مصادر أن تكاليف الحرب الأمريكية في العراق بلغت حوالي 7 تريليونات دولار أو تجاوزت ذلك، فإذا ما تم استخدام هذه المبالغ في خدمة الشعب الأمريكي أو تعليم الشعوب أو تطوير مؤسساتها الإدارية لكان أفضل لأمريكا من أن تتبادل الكراهية مع شعوب الدول الأخرى. وكثيراً ما تسببت أنظمة الحكم الانتخابي بنزف الدماء وإحداث الجروح والكوارث في كثير من الدول وبدورها قامت الدول ذات النظام الوراثي باستخدام اقتصادها بمواساة تلك الشعوب ومحاولة التخفيف من معاناتهم وآلامهم بإرسال المساعدات وبناء ما هدمته تلك القوى تحت مسميات مختلفة.
وعلى الرغم من ذلك، فإننا لا نستطيع أن ننكر أن بعض الدول ذات الحكم الوراثي لها أخطاء وقصور يجب تداركه وأن يتم وضع خطط استراتيجية بعيدة المدى للإبقاء على الاستقرار السياسي وانعكاساته الاقتصادية والاجتماعية، ولم نقصد بعرضنا هذا أن ندعو الآخر ن إلى قيام أنظمة الحكم الوراثي لإيماننا أن لكل شعب ثقافته وقناعاته في طريقة الحكم الذي يرتضيه.